منير الحدادي يكتب: التعليم عن بعد بين إكراهات التنزيل ورهانات المستقبل
جراء تفشي الوباء القادم من الشرق مجتاحا حواجز الزمان والمكان، كان المغرب من الدول التي بادرت لضمان الاستمرارية البيداغوجية من خلال تبني برنامج للتعليم عن بعد، فسارع إلى توقيف الدراسة بجميع الأقسام والفصول انطلاقا من يوم الاثنين 16 مارس 2020 حتى إشعار آخر، حيث كان سباقا إلى إقرار برنامج متكامل وواعد للتعليم عن بعد يعوض الدروس الحضورية ويسمح للتلاميذ والطلبة والمتدربين بالمكوث في منازلهم ومتابعة دراستهم في أمن وأمان.
إن هذا الاختيار يقودنا جميعا لنسائل مجددا سياساتنا العمومية العامة منها والقطاعية على الخصوص حول الإجراءات والتدابير المتخذة لمواجهة مشاكل مجتمعاتنا ومشاكل التعليم والتعلم والمعضلات التي يواجهها النظام التعليمي في زمن الكورونا وغيره، وعن إمكاناتنا واستعدادنا على صعيد المنظومة التربوية الوطنية في زمن الأزمات وعن السيناريوهات البديلة المتوقعة ومدى نجاعتها.
إن ما يشهده العالم من تحولات شملت كل مناحي الحياة لتهم العلوم الانسانية والتربوية كذلك، شكل إضافة نوعية ومفيدة في جوانب كثيرة، ولكنه أيضا كان له وقع مخيف ومربك في جوانب أخرى. وعلى كل حال فقد كان لابد أن يتماهى المجال التربوي والتعليمي مع ما تعرفه المجالات التكنولوجية من تقدم وازدهار، لأن المجالين يكمل بعضهما بعضا، ولأن التطور التقني يتطلب قدرات متطورة وعالية لدى العاملين لكي يستطيعوا مواكبة التطور التقني في العصر الحديث؛ فاتفق الجميع على أهمية استخدام التكنولوجيا كأساس ورافعة مهمة في نجاح العملية التربوية، لأنها تمثل ضرورة في جميع مناحي الحياة، إلا أنها في التربية والتعليم ذات أهمية قصوى، فلا تعلم حقيقي اليوم دون استخدام التكنولوجيا ومصادر المعرفة وأدواتها العالمية.
واليوم، ونحن نعيش حالة التوقف القهري عن التعليم الحضوري، أصبحنا في حاجة ماسة لتكنولوجيا المعلومات والاتصال أكثر من أي وقت مضى، فعادت مفاهيم التعلم عن بعد والتعلم الالكتروني (E – Learning) -الذي يعتبر وسيلة من الوسائل التي تدعم العملية التعليمية والتعلمية الإلكترونية والإبداع والتفاعل وتنمية المهارات، واستخدام التكنولوجيا في التعليم- لتحتل موقع الصدارة في اهتمامات المفكرين التربويين ليس على الصعيد الوطني فقط بل على مستوى العالم. لذلك، كان من الضروري أن نهتم بدراسة ممارساتنا التربوية إبان الجائحة اعتمادا على الأدبيات التربوية وعلى التجارب الدولية الناجحة في هذا مجال التعليم عن بعد.
لقد شرعت وزارة التربية الوطنية المغربية في إرساء التعليم عن بعد معتمدة في ذلك على رصيد لا بأس به من الخبرة التي اكتسبها رجال التربية والتعليم من خلال البرامج والتكوينات التي أشرفت عليها مديرية جيني أو بعض الجمعيات النشيطة في هذا المجال، والتي ساهمت في إغناء المكتبة الوطنية للموارد الرقمية وخاصة منها الفيديوهات التربوية. فعبر الأساتذة مشكورين عن نكران الذات وعن انخراطهم الجاد والفعال في ضمان الاستمرارية البيداغوجية من خلال انتاجات رقمية كثيرة ومتنوعةّ يتم تقاسمها مع المتعلمين باعتماد مختلف القنوات من وسائل التواصل الاجتماعي، والأقسام الافتراضية عبر مسطحة تيمس (MS-Teams) والقنوات التلفزية الوطنية.
لقد شكلت تجربة التعليم عن بعد استحسانا منقطع النظير بين صفوف المتعلمين وأولياء أمورهم وكذا جل الأطر التربوية رغم مختلف المشاكل والعراقيل وخاصة التقنية منها التي تحول دون بلوغ الأهداف المرجوة. لذلك، كان من الضروري التعريج على مجموعة من المعوقات التي واجهتها والتي تهم مستويات كثيرة ومتعددة:
- مستوى السياسة التربوية: إن التعليم عن بعد ينبغي أن يكون اختيارا استراتيجيا من قبل المنظومة التربوية وليس وليد ظروف قهرية، حيث يجب أن ينبني على أسس سليمة تعتمد على تخطيط مسبق ورؤية واضحة لهذا الأنموذج التربوي؛
- المستوى البيداغوجي: فمن خلال الاطلاع على مختلف كبسولات الفيديو المتداولة عبر وسائل التواصل الاجتماعي يمكن القول إن جل تلك المحاولات تعتريها مجموعة من النقائص البيداغوجية والديداكتيكية حيث يمكن اعتبارها فقط محاولات لرقمنة الدروس الحضورية دون الأخذ بعين الاعتبار ما يمليه استدماج تقنيات المعلومات والاتصال في العملية التعليمية التعلمية من استحضار لسيناريوهات بيداغوجية تكفل التفاعل والعمل التعاوني بين أطراف العملية من أساتذة ومتعلمين مع التركيز على محورية المتعلم ودوره في بناء تعلماته. لكن جل المحاولات الحالية لا تعدو أن تكون سوى تعليما تقليديا مرقمنا يعتمد التلقين ومحورية الأستاذ؛
- مستوى الموارد البشرية: لاحظنا قصورا واضحا لدى الفاعل التربوي ولدى المتعلم في التعامل مع التكنولوجيا الحديثة مما دفع غالبيتهم للتواصل عبر وسائل التواصل الاجتماعي عوض مختلف المنصات والمسطحات المتوفرة نظرا لصعوبة التعامل معها؛
- مستوى التكلفة: ترتبط أهم المعوقات التي تعتري هذه التجربة أساسا بالكلفة الباهظة التي تتطلبها سواء بالنسبة للمتعلمين أو الأساتذة؛ فمعظم الأسر لا تتوفر على أجهزة كافية نوعا وكما، ناهيك عن العبء المادي الذي تشكله مصاريف التعبئة على كاهل الأسر المغربية؛
- المستوى التقني: يعاني مختلف التلاميذ والأساتذة من جملة من المشاكل التقنية المرتبطة بالربط بشبكة الأنترنيت وبالصبيب والطاقة الاستيعابية للخوادم..
بقدر ما ننتقد الثغرات التي تعتري التجربة المغربية لإرساء الاستمرارية البيداغوجية عبر اختيار التعليم عن بعد، بقدر ما ننوه بالمجهودات المبذولة من قبل وزارة التربية الوطنية وكل الفاعلين التربويين ونستشر ف الأمل في تحول مهيكل لمنظومتنا التربوية بشكل تحتل فيه التكنولوجيا الحديثة المكانة المناسبة؛ فالأزمة الحالية شكلت فرصة مواتية للبدء بتجريب التعليم عن بعد، بسبب الضرورة وعدم وجود بديل آمن للتعليم. ولأن التعليم عن بعد هو حاجة للمستقبل بسبب التطور الذي يسير إليه العالم، فبكل الأحوال ورغم الصعوبات الكثيرة الملاحظة والمتوقعة يجب أن يستمر الجهد لإنجاح التعليم عن بعد، ورصد الأخطاء ومعالجتها أولا بأول، والتفكير بحلول خلاقة غير روتينية لأن التعليم عملية مستمرة يجب ألا تتوقف لدى المتعلمين خاصة في ظل أزمة قد تستمر وتطول.
لقد أبانت هذه الفترة عن إقبال منقطع النظير على تكنولوجيا الإعلام والاتصال بين صفوف الأساتذة والمتعلمين وعلى التعليم عن بعد رغم علته وفق النسخة المغربية. لذلك، بعد انجلاء هذه الجائحة، فالوزارة الوصية مطالبة بترصيد هذه التجربة وتثمينها من خلال تبني استراتيجية واضحة المعالم قد تجعل من التعليم عن بعد رديفا للتعليم الحضوري ومكملا له من خلال اعتماد مقاربات بيداغوجية جديدة – كالقسم المقلوب -من شأنها أن تعزز مكتسبات متعلمينا وتنمي التعلم الذاتي لديهم، وكذا إتمام مسيرة التكوين والتأطير التي بدأتها مديرية جيني منذ عقد ونيف دون إغفال مجال البنية التحتية وربط المؤسسات بالشبكة العنكبوتية.
إن تجربة التعليم عن بعد رغم طابعها القسري والاضطراري إلا أنها ستشكل لحظة حاسمة في تحول النظام التربوي المغربي ليلتحق بركب الأنظمة التربوية الرائدة على صعيد العالم إذا ما تظافرت جهود مختلف الفاعلين والشركاء بغية إنجاح هذا الورش الوطني الواعد، بعيدا عن الحسابات السياسوية الضيقة وعن أبواق بعض المنابر الإعلامية الهاوية التي تتخذ من التعليم وقضاياه هدفا لسهامها الغادرة دون التحلي بالموضوعية المهنية التي يقتضيها العمل الصحفي الجاد.
تعبر المقالات المنشورة في “منتدى الديار” عن رأي أصحابها، ولا تمثل بالضرورة وجهة نظر الجريدة