يونس وعمر يكتب: مأساة ادريس التي هدمت شعارات الدولة الاجتماعية

فجأة ..
يظهر شخص من ذوي الاحتياجات الخاصة قبالة الكاميرا..
وقبل ان يبدأ الكلام، تلتقط زوايا الصورة تفاصيل حياة صعبة تفتقر لأدنى متطلبات العيش الكريم!
أسوار متآكلة من طين،
يعلوها سوادُ عيدان محترقة… تجهل ان كانت نارها للطهي أم محاولة يائسة لاتقاء برد ينهش العظام؟
أوان قديمة،
منثورة بعشوائية لا تعكس إلا فوضى الحاجة،
في ركن يحكي مأساة أسرة من ستة أفراد…
تتقاسم الفقر قبل أن تتقاسم الخبز!
فجأة… يقطع رشيد صمت المشهد بكلمات أثقلها القهر:
“منذ أن تعرض القادوس للتلف، جفّت أشجارنا… صرنا نعيش على إحسان المحسنين، وما أجنيه من رعي أغنام الآخرين”.
هنا.. تجد نفسك امام واحدة من صور قهر الرجال!
رجلٌ وُلد فلاحًا، يحلم بالحصاد، فإذا به يرعى رزق غيره، بينما تموت أرضه عطشًا أمام عينيه..
وقبل ان تأخذ نفسا عميقا، يأخذك المشهد إلى أسرة مجاورة، حيث تتوسط الصورة امرأة مسنّة، يجلس بها الزمن على كرسيٍّ متحرك، بينما تتكئ ملامحها على الخذلان.
ترفع عينيها صوب الكاميرا…
نظراتها تحكي كل شيء،
لكن شفتيها تأبيان النطق، كأن الكلمات فقدت معناها من فرط الخيبة.
وفي خضم هكذا صمت ثقيل، تقطع ابنتها المشهد بكلمات عفوية تكسر الجمود للحظة… قبل أن تسترسل، وكأنها تسرد مرثية لحياة لم تكتمل:”
بعد وفاة والدي، حملت والدتنا على عاتقها عبء تربيتنا..لكننا اليوم نعيش أزمة بفعل شح المياه . لم تعد تسقي أشجارنا كحال عدد كبير من الضيعات بسكورة مداز ..سكورة أيضا تحتاج للتنمية !”
تتوالى كلمات “الابنة” لتلقي مفاجأة اخرى عنوانها “غياب الدعم بفعل غياب “الأوراق “..
أية أوراق ..تلك التي تمنع الدعم عن فلاحين صغار توارثوا بضعة أشجار زيتون ابا عن جد منذ قرون؟!
أية أوراق تلك التي تحرم مثل هؤلاء من كل الصناديق التي أنشأتها الدولة لدعم الفئات الهشة وقت الأزمات!
ثم، لماذا يصبح أصلا إصلاح “قادوس لعين” أزمة ممتدة لسنوات؟
تنتظم الأسئلة العاجزة عن الفهم في طابور غريب ..في وقت تختلط المشاعر في داخلك دون ان تدري..
ان كانت غضبا، قهرا أم احساسا بالغبن ..
تنتقل كاميرا “الديار” لتصور مأساة اخرى ، تجعلك تنسى كل ما سبق!
مأساة ادريس..
التي أبت إلا ان تهدم كل الشعارات الجوفاء التي اثقلت مسامعنا ..
منذ زمن !
شاب يصاب خلال حادثة سقوط ، دون ان تسعفه كل برامج “الصحة” في الحصول على حقه في “الصحة” ..قبل ان يصطاد ورم خبيث جسده الضئيل !
مواطن مغربي، تكفي مشاهدة “تفاصيل ” حياته لتلعن كل البرامج والاستراتيجيات التي مرت من هناك!
التفاصيل التي رصدت “الكاميرا” جزءا يسيرا منها فقط..
وما كان بيسير!
إذا كان هذا الاحساس بالقهر هو حالنا ونحن نشاهد هذا الوضع في فيديو للحظات..فكيف يكون حال من يعيشه منذ زمن؟
“بعد ان تعرض القادوس للتلف..لم يعد لدينا ما نعيش به”
هكذا تكلم ادريس، وهو ملقى لا يستطيع الحراك في “النوالة” التي ورثها عن والدته !
“النوالة” التي يمكن ان تصلح لأي شيء، إلا أن يعيش فيها إنسان!
قبل ان تسترسل زوجته وهي تغالب دموعها..
“بعد مرض زوجي وتلف المدار السقوي.. لم تعد لدينا وجهة نسير اليها”..
تصمت الزوجة للحظات، كإنسان أدرك متأخرًا أن الشكوى في هذا الوطن لا تُجدي…
ثم تواصل، لكن هذه المرة بصوت لم يعد يحمل سوى وجع بارد،
وجع يهدم كل تفاصيل الدولة الاجتماعية التي نسمع عنها من أخنوش ورفاقه في الحكم!
وجع يفضح تقصير كل مؤسسات الجماعة، والإقليم، والجهة وحتى الحكومة … بل وكل مؤسسات الوطن!
ثم، بكل بساطة، بكل صدق، بكل يأسٍ موجع، تقول:
“رجاءً… ساعدونا.”.. في كلمة تختصر مأساة وطن بأكمله!
هكذا أنهت الزوجة المتعبة كلماتها والدموع تغالب عينيها،
في وقت لا تزال الكاميرا التي ابت ان تنهي مهمتها بعد..
لا تزال توثّق آثار “القادوس” المعطوب، الذي بدا وكأنه يتحكم في مصائر البشر أكثر من كل خطب المسؤولين ووعودهم الباردة كخبز عتيق !
أشجار زيتون صمدت قرونًا، ربما منذ عهد الفينيقيين،
تذبل اليوم وتموت، ثم تقتلع واقفة…
كأنها تحاول أن تلقّن الجميع درسًا أخيرًا،
أنه حتى في الموت، ثمة من يظل شامخًا…
عكس أولئك الذين يموتون وهم أحياء، خلف مكاتبهم!
كل التبريرات ههنا عاهرة!
كل الاجراءات ههنا تافهة..
كل المساطر التي تفرز هكذا وضعا اجتماعياً..
تصبح مجرد ترهات بيروقراطية عقيمة ودون جدوى!
وإلا، كيف لمنطقة تزخر بالموارد المائية ان يصبح هكذا حال أبنائها؟
بالله عليكم..
كيف يصبح إصلاح عشرات الأمتار من قادوس وضعه الاستعمار أصعب من عملية تخصيب اليورانيوم؟
طيب، لنفرض جدلا أن إصلاح القادوس يحتاج إلى لجنة دولية من مهندسي ناسا، لنفرض عبطا انه يعمل بتقنية الانشطار النووي، أو ربما يخضع لقوانين ميكانيكا الكم التي يعجز عن حلها أعتى الفيزيائيين!
ألا يستحق مثل هؤلاء، إطلاق برنامج للدعم على غرار برامج الدعم في حالة الكوارث الطبيعية؟
ألا تُعتبر حياتهم اليومية، كارثة طبيعية بما يكفي!
تخيل معي فحسب ..
انه في زمن بناء الملاعب الكبرى، والمونديال، والطرق السيارة، والموانئ العالمية..
في زمن تنفق فيه الملايير على كرة تركلها الأقدام، هناك مواطنون تُركل حياتهم بأكملها نحو الهاوية..
في واحدة، من أقسى وأفظع صور إهمال الجبل وساكنته!
لا يا رفيقي في الغضب..
لم تكن الفضيحة فعل زحف “جفاف” او تقلبات “تغير مناخي”..
بقدر ما كانت جريمة صمت واهمال متكاملة الأركان..
عناصرها مسؤولون من ورق.. لا تدري،
ان كنا في “مصيبة ” كونهم يعلمون مقدار الألم..ولا يبالون؟
ام اننا في “فاجعة ” كونهم لا يعلمون!
هنا تنتهي حكاية الكاميرا.. لكن،
متى كان العبث ينتهي؟
فعلى الضفة الاخرى من وطن يسير بسرعتين،
نبني وبسرعة قياسية هذه المرة ،
وفي نفس الجهة، جهة فاس مكناس..
نبني انابيب بطول الف وسبعمئة كيلمتر لنقل مياه جبال سكورة مداز صوب سهول سايس..
ننقل المياه إلى هناك،
حيث يستفيد الفلاحون من دعم صندوق المغرب الأخضر!
بينما يظل إدريس وزوجته، ورشيد ويامنة، في مواجهة قادوسهم المعطوب،
بلا ماء،
بلا دعم،
ودون أدنى اهتمام!
يظلون عالقين في زمن ما قبل الحضارة، حيث الماء رفاهية، والزراعة مقامرة، والحياة مجرد انتظار… انتظار قطرة، انتظار معجزة، أو ربما انتظار مسؤول يملك ضميرًا!
بالله عليك، إن لم يكن هذا ظلمًا، فماذا يكون؟
وإن لم يكن هذا جورًا، فأي جور بعده يمكن أن يهون!
ختاما،
أتعلم، يا صديقي، معنى كل هذا؟
معنى أن تعود السياسات العمومية بنا،
ألف عام إلى الوراء.. بمخططات خماسية وسداسية، وتقارير لامعة!؟
معنى أن يظل هكذا موضوع خارج أسوار البرلمان، كأنه لا يستحق حتى رفاهية النقاش!؟
معنى أن تمر الاجتماعات الجماعية والإقليمية والجهوية، كما تمر السنين… بلا أثر، بلا حل، ودون أدنى إحساس بالخجل؟
معناه أن شيئًا ما نتن في هذه البقعة…
أن الوطن، وللأسف، ليس بخير!
تعبر المقالات المنشورة في “منتدى الديار” عن رأي أصحابها، ولا تمثل بالضرورة وجهة نظر الجريدة