إدريس أبلهاض يكتب: ما بعد الانتخابات.. الرؤى والتوجهات
بانتخاب أعضاء مجلس المستشارين ليوم 05 أكتوبر 2021، يكون الستار قد أسدل عن آخر محطة في المسلسل الانتخابي الذي عرفته بلادنا، حيث تمت الهيكلة النهائية لآخر مؤسسة دستورية منتخبة، وبذلك تم استكمال الجهاز التدبيري المنتخب وطنيا وجهويا ومحليا.
انتخابات 2021، التي جرت في ظروف استثنائية وفي ظل قانون الطوارئ، تميزت – رغم بعض التجاوزات المحدودة- بالشفافية والتنظيم المحكم، ما يرسخ – وبشهادة المنتظم الدولي- أن مفهوم الاستقرار ليس مجرد مقولة استهلاكية، بقدر ما هو خيار استراتيجي، بنية ونمط عيش مجتمعي، يؤكدان على وجود إرادة مشتركة ودائمة بين الشعب والدولة، أساسها الانتصار للوطن والثوابت، ووفقا لهذه الإرادة المشتركة وعلى أرضيتها يتم تدبير الاختلاف والتنافس.
نجاح المغرب في تدبير الانتخابات، هو نجاح لمشروع التحول، وإقرار ضمني بمستوى النضج السياسي والاجتماعي الذي راكمه الشعب المغربي، وأهله لأن يمارس حقوقه الدستورية والديمقراطية في تجديد مؤسساته الدستورية المنتخبة عبر الآلية الشرعية الوحيدة والممكنة، آلية الانتخابات، وتلك رسالة مهمة للأعداء قبل الشركاء، مفادها أن البلد يعيش استقرارا طبيعيا ووحدة وطنية عزّ نظيرها في محيط إقليمي وقاري تطبعه القلاقل والانقلابات، وتبعات الربيع العربي واستمرار عقليات وأنظمة الحكم الشمولي.
بالعودة إلى الاستحقاقات الأخيرة، خاصة التشريعية منها، والتي تم تنظيمها وفقا لمتغير القاسم الانتخابي في احتساب الأصوات، نلاحظ أن استقراء النتائج النهائية يضعنا ولأول مرة أمام خريطة سياسية واضحة الملامح والتحالفات، ما يعكس نوعا من الوعي الضمني بضرورة الحسم مع البلقنة والاتجاه التدريجي نحو بناء أقطاب سياسية قوية، بتوجهات إيديولوجية واضحة، تسهل بناء التحالفات وتُؤسس لممارسة سياسية قوامها التدافع القائم على الأفكار والبرامج والاستراتيجيات، ترسخ لثقافة التعامل بمنطق الأغلبية وعقلية المعارضة.
نجاح الدولة في تدبير الزمن الانتخابي، ونجاح الناخب في بلورة اختياراته العقابية والجزائية، هي رسائل واضحة ليس للخارج فقط، وإنما المفروض أن يلتقطها الفاعل السياسي الحزبي ويعيد تأملها الآن وقد أخذنا مسافة عن إكراهات الدعاية الانتخابية وزمنها الانتقالي المشحون بالتدافع السلبي أحيانا، ما بعد الانتخابات وإفرازاتها وما رشح عنها من مؤسسات ترابية وتشريعية وتنفيذية، يعني أن التعاقدات الاجتماعية والسياسية قد أكملت استواءها وبالتالي يجب القطع مع تداعيات الزمن الانتخابي المرحلي، وبدأ التفكير بمنطق زمن التدبير والبناء سواء من موقع الأغلبية أو موقع المعارضة، ولست مفاهيم التدبير والبناء في هذا السياق، حصرا على مستواها العملي المرتبط بالسياسات العمومية و المحلية، وإنما للمعنى ارتداد داخلي يحيل على ضرورة أن تعيد الأحزاب السياسية (أغلبية ومعارضة) قراءة نتائج الانتخابات على ضوء منسوب ديمقراطيتها الداخلية، وآليات صناعة نخبها وآليات تدبير التنافس بين قياداتها ومناضليها، وشكل خطابها وحجم وشكل انفتاحها على المجتمع.
السياسة فعل ديمومة واستمرارية وليست فعلا انتخابيا وفقط، وبقدر الرهان على أن تكون الأغلبية الحالية في حجم رهانات الوطن وانتظارات المواطنين وأن تكون المعارضة قوة رقابة بناءة وقوة اقتراح لا اعتراض فقط، بقدر الرهان على أن تستوعب مؤسسات الوساطة الاجتماعية فكرة التحول والوعي النوعي الذي بدأ يسود أوساط الشارع، هناك وعي أبانت عنه النتائج الأخيرة، أن التصويت بقدر ما هو اختيار وترجيح كفة، بقدر ما هو عقاب سياسي قاسٍ أحيانا، وهي خلاصة يجب الوقوف عندها بتأنٍ كبير، فلم تعد ذاكرة الناخب قصيرة، وبالتالي وجب الحسم مع عقلية التفكير الانتخابي في تدبير الزمن السياسي، الانتخابات بسلبياتها وإيجابياتها، ليست سوى محطة وسطية، ما بعدها وما قبلها هو موضوع النقاش والتفكير والبناء.
ربما من النقم التي طوتها نعمة القاسم الانتخابي، أنه بقدر ما فتح هامش التنافس السياسي على مصرعيه، بقدر ما كشف بجلاء خللا بنيويا في المنظومة الحزبية، وهو الخلل الذي كثيرا ما تم غض الطرف عنه لسبب أو لآخر، ونقصد أزمة الأطر الحزبية المؤهلة والقادرة على ممارسة التدبير ، خاصة في مستوياته المحلية، للأسف، لا يمكن فهم وتشخيص العطب الذي يعطل التنمية المحلية، في غياب المقاربة التي تساءل مؤهلات وقدرات الفاعل المحلي المنتخب، والمسؤولية أولا وأخيرا تتحملها بعض الأحزاب السياسية التي تفتقر إلى رصيد معين في التجربة والامتداد والأطر.
إن فهم العملية الانتخابية قياسا إلى اسقاطات معجم الحروب، هو فهم ينم عن الكثير من القصور في استيعاب مفهوم الممارسة السياسية ككل، الانتخابات محطة للتنافس على أرضية الأفكار والبرامج والرؤى، وليست معركة بمفهوم من يقارب السياسة بمنطق الغنائم، في الحرب ليس هناك منتصر، وفي السياسة ليس هناك منهزم، هناك فقط تنافس من أجل أن ينتصر الوطن، ويتسع لأحلام وطموحات وانتظارات كل أبناءه، وبالتالي فالتنافس البناء على هذا الهدف الأسمى، خدمة الوطن بمؤسساته وجغرافيته ومدنه وثوابته وتاريخه وهويته… يحتاج فعلاً إلى نقد ذاتي ومراجعة شاملة لبنى الأحزاب الداخلية ومنظومتها التدبيرية، حتى تكون في مستوى مواكبة التحولات والرهانات الاستراتيجية التي دخلتها البلاد، لا أن تكون عامل شد إلى الوراء.
بعد ست سنوات من الآن، قد تختفي بعض الأحزاب نهائيا، وقد تتآكل أخرى إن هي لم تبادر إلى تصحيح اختلالاتها الداخلية وتجديد نخبها وخطاباتها، نشوة الانتصار الآني قد تبدو غير مبررة، بل داعية للقلق، قياسا إلى ما أفرزته تحالفات تدبير مجموعة من المجالس المنتخبة على رأس بعض المدن والجماعات الترابية، التهافت غير المعقلن، والتفكير الضيق بمنطق الربح والخسارة في تدبير الزمن الانتخابي ، رجح اختيارات كمية أكثر منها كيفية، والمحصلة مجالس معطوبة بمنتخبين غير مؤهلين غالبا، والنتيجة رهن مستقبل التنمية المحلية لسنوات أخرى مفتوحة على المجهول.
تعبر المقالات المنشورة في “منتدى الديار” عن رأي أصحابها، ولا تمثل بالضرورة وجهة نظر الجريدة