طارق جبريل يكتب: لازالت هذه الأمة بخير
وعكة صحية في المحيط الضيق اضطرتني للركض بين عيادات الأطباء آملا أن يشفي الله مريضنا ويمتعه بالصحة. كل العيادات تتقاسم نفس المناظر ونفس المحتويات تقريبا، آنسة أو سيدة ببدلة بيضاء تجاهد في لغة موليير ويتكرر الكلام ذاته عند باب كل طبيب، تختلف الكراسي حسب موقع العيادة الجغرافي والحي ما بين الوثيرة، والتي تجعلك تصمد حتى يأتي دورك لدى الطبيب وربما تزيد معاناتك بألم في الظهر والعظام، طاولة بها مجلات قديمة معظمها باللغة الفرنسية تتحدث عن أحداث مر عليها أكثر من عقد، وجوه متعبة تشرئب نحو غرفة الطبيب تمضغ ذاتها لكن الألم يعجز عن الكذب.
نفس المشهد يتكرر في المختبرات الطبية وإن كان الفضاء أكثر رحابة، كل إن لم يكن معظم المختبرات تضع جهاز تلفاز أعلى الحائط وتضبطه على قناة «ناشيونال جيوغرافيك»، وأنت غارق في استحلاب بعض من ذكرياتك تجود عليك تلك القناة تارة بوثائقي عن أسماك السلمون، التي تجاهد لتصل أعالي الأنهار من البحار كي ترقص رقصتها الأخيرة قبل أن تضع جيلا جديدا من نسلها تحت الماء، وتارة تزيد معاناتك حين تبث وثائقيا عن وحشية الكلاب البرية وهي تلتهم غزالا لم تفض روحه بعد.
شابان في بداية حياتهما الزوجية زفت إليهما نتائج التحليل وجود جنين يتكون في رحم الزوجة، تعانقا أمام الناس ثم استغلا تكنولوجيا التواصل ليطير الخبر لأسرتيهما.
طفل مصاب بداء السكري يرفض الدخول إلى غرفة التحاليل باكيا: «ماما أنا عييت من لي باري»، تحجرت الكلمات في شفتي الأم وخانها تكثف الحزن داخلها فطفرت منها دمعة جففتها ثم تماسكت: «صافي آبابا هادي وصافي باش تولي لا باس وتلعب مع صحابك».
رجل مسن يتوكأ عصا طبية متهالكة دفع بأوراق التحاليل إلى سيدة الاستقبال وقبل أن تدخل معلوماته طلب منها أن تمده بتكلفة التحاليل كاملة، قامت بإدخال نوعية التحاليل التي تخصه في الحاسوب ثم أخبرته أن المبلغ 430 درهما، حامت عيناه خلف نظارته ثم ظهرت لثته المهجورة وهو يجاهد كي يقول شيئا ثم خاطبها: «شوفي آآآبنتي راه عندي غير 250 درهم ديري هاديك التحاليل على قدهم».
شعرت بشيء من الجفاف يسيطر على روحي، لن أمحو من الذاكرة ما حييت عيناه وهو ينطق بتلك الجملة، نهضت من مكاني وسبقني إليه ثلاثة أشخاص وبحركة لا إرادية أخرجنا جميعا حافظة نقودنا، اعتذر لنا رجل في الأربعينيات وقال إنه سيتكلف بالأمر، أجلسنا الرجل كي يرتاح ولسانه يلهج بالشكر: «الله يرحم ليكم الوالدين»، طلبنا من السيدة أن يتقدم الجميع في التحاليل وقد كان، حين خرج وقف ورفع يديه لنا وتعابير وجهه تلهج بالشكر، فغادر وابتلعه ضجيج الشارع، وعدنا نحن لـ«ناشيونال جيوغرافيك».
إنا لله.. لا زالت هذه الأمة بخير وستظل كذلك.. سألت نفسي إن كان بالإمكان جعل التأمين الصحي يغطي الجميع؟
تعبر المقالات المنشورة في “منتدى الديار” عن رأي أصحابها، ولا تمثل بالضرورة وجهة نظر الجريدة